تراشق بالأسهم في القطيف
يقلم تركي العجيان
حربٌ ضروس تعيشها القطيف وتحيا مشاهد فصولها الساخنة، مواقفٌ مثيرةٌ للقلق، وتدعو لإعلان حالة الطوارئ العاجلة، وليت شعري إلى متى سيظل مجتمعنا الغالي يعيش حالة الطوارئ في مختلف الأبعاد والميادين؟!
أحدث الوسائل القتالية تُستخدم في هذه الحرب الطاحنة، وأعتى أنواع الأسلحة فتكاً وُظّفت توظيفاً محنّكاً للوصول لأكبر قدرٍ ممكن من المكاسب. ولا يُمكن التنبؤ بمن المنتصر في هذه الحرب، إلا أننا نستطيع أن نقول بضرس قاطع أن جميع المشتركين في هذه الحرب قد يخسرون إن لم ينتبهوا لخطورة المعركة.
هذه الحرب تكشف الستار عن مرحلة جديدة للمجتمع القطيفي، فذلك المجتمع الذي كان يُنصت بخشوع إلى رأي طبقة العلماء من المجتمع وكبار شخصياته، أصبح الآن يُعبّر عن رأيه بكل ثقة، بل ويُعارض في ذلك رأي كبار العلماء والشخصيات، مما يؤكد أن ثقة الناس بأنفسهم أصبحت بمستوى متقدم جداً، وهذا جانبٌ إيجابي تكشف أستاره هذه الحرب. إلا أنه ثمة خطورة بالغةٌ تُلقي بظلالها على قلب القطيف الحبيب، تلك الخطورة ناتجة من طبيعة الأسلحة المستخدمة في هذه الحرب، حيث وُظّفت الكلمة توظيفاً عميقاً في مجريات هذه المعركة، وأصبح العراك الثقافي والفكري بين مختلف التيارات والتوجهّات الاجتماعية هو عنوان هذه المعركة الخطيرة.
وبالتالي فإن المعركة تكشف عن نقطةٍ إيجابيةٍ أخرى، وهي حالة التنوع والتعدد الفكري والثقافي الذي يحتضنه مجتمع القطيف. مما يُحمّل التوجّهات المتعددة مسؤولية كبيرة جداً تجاه هذا الواقع الإيجابي.
مجموعة من العناوين المهمة تبرز وسط هذه المعركة، نؤكد على بعضها:
أولاً- القطيف تُمثّل مدرسة أهل البيت .
مدرسة أهل البيت تبعث في نفوس أتباعها روح المحبة والمودة، وروح الإخاء وحسن التعامل والأدب، فكيف بنا نعيش حرباً يُساء فيها الأدب، وتُسقّط فيها الشخصيات بمختلف العناوين، ويُمكن الجزم بأنه لا تُوجد شخصية بارزة في القطيف علمائية أو اجتماعية أو ثقافية لم يمسّها شظايا من نيران المعركة، مما يعكس ظرفاً في غاية الحساسية، ويخلق أرضية خصبة لاشعال نار الفتنة بين التوجهات المختلفة في القطيف. وأصبح من السهل جداً إثارة الخلاف في الوسط القطيفي، بشكل غير مسبوق، فأي مقال يُنشر في أي وسيلة إعلامية من شأنه أن يقلب الموازين رأساً على عقب، ويخلق عراكاً كلامياً شديد اللهجة، و لعل الامور تصل في بعض مستوياتها إلى العراك البدني.
المجتمع القطيفي يؤمل فيه أن يكون مناراً من منارات مدرسة أهل البيت ، والتي توجّه أتباعها لمحامد الخصال مع الأعداء، فضلاً عن الأخوان، ولا أعتقد أن هناك تياراً فكرياً في القطيف يعتبر بقية التيارت في قائمة الأعداء. فهذا أمير المؤمنين حينما سمع أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين، قال لهم: «إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين ولعّانين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به».
ثانياً- لنعش الحرية في ذواتنا قل أن نطلبها من الآخرين.
الحرية قيمة عليا تهفو إليها النفس البشرية، ولا أحد يرغب من ذاته أن يعيش حياة القهر والاستبداد، إلا أنه من المنطق أن يُحقق المجتمع الحرية بين أبنائه، حتى يطلبها لذاته من المجتمعات الأخرى.
ومن جانب آخر فإن حرية الرأي تنتهي عندما يصل مداها لحرية الآخرين، فليس من الصواب أن تُنمح حرية توجيه التهم، وإسقاط الشخصيات بمبرر أن ذلك وجهة نظر.
وبعبارة دقيقة: إن المجتمع المتقدم هو الذي يعي كيف يُدير خلافاته الفكرية بأسلوب راقي وهادف، تُنمح فيها حرية التعبير عن الرأي، وتُصان فيها الشخصيات.
ثالثاً- توفير الجهود والطاقات للقضايا الكبيرة.
كشف العراك الفكري عن وجود كفاءات فاعلة في المجتمع، هذه الكفاءات ظهرت وسط المعركة، وجميلٌ أن تُوفّر التيارات المتعاركة على نفسها هذه الجهود والطاقات المبذولة في حرب ليس يُرجى منها منفعة لأحد، للقضايا الأكثر إلحاحاً وأهمية في الوسط الاجتماعي، فتتعاون الطاقات فيما بينها بما يخدم المجتمع القطيفي، لا أن يقوم كل طرف بتمزيق قلب القطيف، وتحويله إلى ساحة متناحرة متصارعة يسهل اختراقها وإثارة الفتن بين أوساطها، من قبل المستهدفين للنفاط الضعف في قطيفنا الحبيب..
وحقّ للمتسائل أن يتساءل: كيف سيتأتي للقطيف أن تُحقق طموحاتها وهي تعيش هذه المعركة العصيبة؟
ومجتمع القطيف كأي مجتمع لديه هموم وتطلعات كبيرة، بعضها واضح للعيان، والبعض الآخر بحاجة إلى دراسة وتحليل، حتى تتبلور، فتوجيه الطاقات بهذا الاتجاه مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الجميع، وخصوصاً الشخصيات المحرّكة في كل توجّه أو تيار.
الوعي علاجٌ جوهري!
ليس هناك حل أنجع من الوعي، والذي يعني أن يُدرك كل شخص وكل توجّه ما يُريد، وكيف يُمكنه أن يُحقق ما يُريد بأسلوب إيجابي، وفكرٍ حضاري، يُراعي فيه القيم والمبادئ السامية، ويهدف من ذلك الوصول لرضا الله سبحانه وتعالى. هنا تستطيع شرائح المجتمع وتياراته وتوجّهاته أن تخلق مجتمعاً ربّانياً.
نعم لسنا نهدف إلى مجتمعٍ ملائكي، وإنما ينبغي للمجتمع الذي يُمثّلُ خط أهل البيت هويّة جامعة لمختلف توجّهاته، أن يكون نموذجاً لبقية المجتمعات الأخرى، بما يُحققه من تناغمٍ بين شرائحه المختلفة، ووعيٍ يجعله قادراً على طرح ذاته بين المجتمعات الأخرى بكل ثقةٍ واطمئنان.