وفي رسالة ذكر أن عمر بن الخطاب كتبها إلى معاوية ، يقول فيها عن أبي بكر : " وقدمت الناس إلى بيعته وصحبته ، لأرهبه وكل من ينكر بيعته ، ويقول : ما فعل علي بن أبي طالب ؟ فأقول : خلعها من عنقه ، وجعلها طاعة للمسلمين ، قلة خلاف عليهم ، فصار جليس بيته " ( 1 ) .
نعم إنهم سيقولون للناس : إذا كان علي عليه السلام قد انصرف عن هذا الأمر ، وإذا كان لا بد من ضبط الأمور ، خوفا من الفتنة ، فقد بادرنا إلى ذلك حفاظا على الإسلام ، ولكي نحفظ للأمة وحدتها ، وللناس كراماتهم ، وانتظام أمور حياتهم ، لأننا نريد الخير للناس ، والزلفى والقرب من الله ، ولا شئ سوى ذلك ، وحين واجهنا بالعنف ، لم يكن أمامنا خيار ، إلا أن اعتقلناه درءا للفتنة ، وحفاظا على الدين والأمة .
ومن الذي يستطيع أن ينكر عليهم ما يدعون ، ويرى الناس أنهم حكام متسلطون ، ولدى الحكام عادة السياط والسيوف إلى جانبها الأموال ، والمناصب ، وبإمكانهم تلبية المطامح والمآرب ، ويبقى إعلامهم هو الأعلى صوتا ، لأنه يضرب بسيوف المال والجاه ، والجبروت ، والأطماع ، والهوى ، وهناك الحقد الظالم من الكثيرين على علي ( عليه السلام ) وعلى كل من يلوذ به ، أو ينسب إليه .
وعليهم أن يستفيدوا من هذه الأحقاد أيضا لتثبيت أمرهم ، وتقوية سلطانهم . وحين أجابتهم فاطمة عليها السلام ، كان جوابها المفاجأة التي ضيعت عليهم الفرصة التي رأوها سانحة ، فواجهوها بالعنف والقوة ،
[size=16]وبانفعال ورعونة ، حيث بادروها بالهجوم الشرس ، الذي ينم عن حنق لا مبرر له إلا الإصرار على انتزاع هذا الأمر بالقوة ، حتى ولو كان بقيمة قتل " المحسن " ، وهتك حرمة بيتها ( عليها السلام ) والاعتداء عليها بالضرب المبرح ، وهي امرأة ليست هي بالطامعة ، ولا الحاسدة ، ولا المغرورة بنفسها ، ولا الحاقدة ، ولا المشاغبة ، إنها امرأة جاءت لترى من الطارق ؟
ولم تكن بصدد إطلاق الكلمات الرعناء بلا حساب ، بل لا مبرر لأن تفعل ذلك ابتداء ، وهي المرأة المثكولة بأبيها أعظم نبي وجد في هذا العالم ، وقد أخرجهم من الظلمات إلى النور ، وهي ابنته الوحيدة ، والإنسانة المميزة التي هي أفضل نساء العالمين من الأولين والآخرين ، وهي التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها .
فلو أنهم حين جاؤا قد تكلموا بالكلام اللين والمهذب ، وقالوا لها : كيف أصبحت يا بنت رسول الله ؟ لقد جئنا للاطمئنان على حالكم ، وللسؤال عن صحتكم ، ولنعزيكم برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فهل تأذنين لنا بزيارتكم لمباسطة علي ومؤانسته ، والاطلاع على أحواله ، فهل كانت الزهراء ستواجههم بغير الخلق الرضي ، والكلمة الطيبة ، وبغير التأهيل والترحيب ؟ ! ثم تطالبهم وتحتج عليهم في ما يحاولونه من اغتصاب أمر الخلافة ، أو يطالبهم علي ( عليه السلام ) بذلك بحكمة وأناة بعيدا عن أجواء العنف والقهر ، واستعمال السيوف والسياط .
ولكن الحقيقة هي : أن هؤلاء كانوا يريدون الاستعجال بأخذ البيعة من علي ( عليه السلام ) ، إذ أنهم سرعان ما سيظهر عدم صحة ما قالوه للناس ، وأن عليا ( عليه السلام ) لم ينصرف عن هذا الأمر ، فبماذا يجيبون الناس على سؤال : لقد بايعتم أمس عليا ( عليه السلام ) في يوم
[size=16]الغدير ، ثم قلتم لنا : إنه قد استقال من هذا الأمر ، وها قد ظهر خلاف ما ادعيتم ، فكان أن أسرعوا إلى علي ( عليه السلام ) ليأخذوا البيعة منه بالقوة وبطريقة إرهابية ، ليتلافوا أي حجاج أو احتجاج يحرجهم ، ويفضح ما لا يحبون فضحه ، كما أنهم بهذا الجو الإرهابي يظهرون عليا ( عليه السلام ) على أنه متمرد على الشرعية ، وخارج على القانون .
فكان موقف الزهراء ( ع ) مفاجئا لهم فقد أفقدهم القدرة على التصرف المناسب وضيع عليهم ما جاؤا لأجله ، فتصرفوا معها برعونة وبانفعال وحقد ، وتسببت في فضح أمرهم ، وهتم المستور من نواياهم وخباياهم ، فأين هي التقوى التي يدعونها ، وحب الخير الذي يزعمونه ؟ ! وعرف الناس حقيقة ما أرادوه من وأد الفتنة ، وإقامة شرع الله وأحكام الدين الذي يتذرعون به .
إن ما فعلوه مع الزهراء ( عليها السلام ) ، قد أفقدهم القدرة على تلميع الصورة ، وكان فتح الزهراء للباب ضربة موفقة محقت كل كيد وزيف ، وأبطلت كل تزوير أو تحوير للوقائع والحقائق . وكيف يمكن تحصين الأجيال من التزوير الإعلامي ، الذي قد يمارسه الحكام بكل ما يملكون من طاقات وإمكانات سلطوية ومادية ؟ ! .
لقد قتل المأمون أخاه الأمين ، ثم صورة إعلامه أنه إنسان تافه ، جاهل وأحمق ، بل ومتخلف عقليا ، ولم يزل الباحثون يعتقدون فيه نفس هذا الاعتقاد الذي أوحى به المأمون للناس ، مع أن الحقيقة هي أنه كان على عكس ذلك تماما ، لكن ذنبه : أنه هزم وقتل . وإذا كنا نحن نملك معابيره تمكننا من اكتشاف كثير من الحقائق
وهكذا يتضح : أنه لو كان علي عليه السلام هو الذي أجاب المهاجمين لضاع الحق لدى الكثيرين من الناس ، وهو ما لم يكن علي ( عليه السلام ) ليقدم على التفريط به في أي ظرف ، ولكانوا فعلوا ما أرادوه من اقتحام البيت ، وغيره من أمور ، وكانوا أعظم شراسة وأشد ضراوة ، وأكثر عنفا وفتكا بأهله ، ولوقع الناس في أعظم البلاء ، حيث تسد عليهم النافذة الوحيدة لمعرفة الحق خصوصا من كان منهم بعيدا عن أجواء المدينة ، فضلا عن الأجيال اللاحقة ، وإلى يومنا هذا ، وهل كان يمكن اكتشاف المحق من البطل ، والطامع ، المتغلب ، والمغتصب ، المهاجم من المظلوم ، والمضطهد ، والمقهور ، والمسلوب حقه ، والمكذوب
[size=16]عليه بما راج آنئذ من شائعات وأباطيل ؟ نعم ، لو كان علي ( عليه السلام ) هو الذي أجاب المهاجمين لضاع الحق ، ولطمست الحقيقة . ولعل أحدا منا ، أو فقل : لعل الكثيرين منا لم يكونوا يتشيعون له ، ولا عرفوا حقه وصدقه ، ولكان لنا حديث آخر مع هذا الإسلام العزيز .
وقد كان علي عليه السلام إماما للأولين والآخرين وهو مسؤول عن تحصين الأجيال إلى يوم القيامة في وجه التضليل والتزوير ، ولا سيما فيما يمس عقائدهم ، وعليه أن يمنحهم الفرصة الحقيقية لاكتشاف هذا التزوير في أي موقع كان ، ومن أي كان .
لو أجابتهم فضة ؟ وحتى لو أن فضة هي التي أجابتهم على الباب ، فإن الأمر لا يختلف عما ذكرناه ، لأن إجابتها لن تعرف الناس على حقيقة ما يكن أولئك القوم من حرص على هذا الأمر ، وإصرار أكيد على ابتزاز وانتزاع الحق من صاحبه الشرعي ، وقد كان بإمكانهم إزاحتها عن طريقتهم بأسلوب لن يكون له دور في جلاء الصورة ، ولا في معرفة الحقيقة ، إذ يمكن أن يتهموها هي بأنها قد واجهتهم بطريقة غير مؤدبة ولا أخلاقية .
ولم يكن لفضة ذلك المقام الرفيع الذي كان للزهراء عليها السلام ، ولم يقل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حقها : إن الله يغضب لغضبها .
أما الزهراء عليها السلام ، فهي المرأة المعصومة والمطهرة بنص
[size=16]القرآن ، وهي التي يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها . فلولا الزهراء إذن ، لطمست معالم الدين ، ولحقق الحاقدون والمنافقون المتربصون بهذا الإسلام العزيز أغلى وأحلى أمنياتهم .
فالزهراء عليها السلام بخطواتها المعدودة تلك نحو الباب قد حصنت حق علي عليه السلام ، وحفظت الإمامة - لا الخلافة فقط - من التجني والتزوير . ثم هي قد مكنت الناس حتى غير المسلمين من اكتشاف الحقيقة ، سواء من عاش منهم في ذلك العصر ، أو الذين جاؤا ويجيئون بعد ذلك .
والتأمل في التاريخ يعطينا : أن كل إمام له دور رئيس في حفظ أساس الإسلام إلى درجة أنه لولاه لضاع الدين ضياعا حقيقيا ، فلولا تبليغ الإمامة يوم الغدير ، ولولا صلح الإمام الحسن ، ولولا استشهاد الإمام الحسين عليهما السلام .
ولا غرو إذا قلنا أيضا : لولا موقف الزهراء هذا ، الذي تعرضت فيه للأذى ، وللضرب وإسقاط الجنين ، لم يكن من هذا الإسلام إلا المظاهر والأسماء وإلا الأشكال والطقوس الجوفاء .
إستطراد ، أو مثال وشاهد : ونذكر هنا شاهدين اثنين ، يدخلان في نطاق ما ذكرناه من مسؤولية النبي والإمام عن تحصين الأمة عن أن تقع فريسة التزوير الإعلامي هما :
الأول : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد طلب في مرض موته أن يأتوه بكتف ودواة ، ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده ، رغم أنه كان
[size=16]قد نص على إمامة علي عليه السلام في كثير من المناسبات والمواقف قبل ذلك ، ولا سيما في يوم الغدير ، حيث أخذ له البيعة من الناس أيضا .
ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يحصن الأمة عن أن تقع فريسة التزوير ، حتى لا يقال لها : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد عدل عن رأيه ، وقد استجدت أمور ، ونشأت ظروف اقتضت استبعاده عليه السلام عن هذا الأمر .
وقد أظهرت مبادرة النبي هذه حقيقة ما كان يكنه البعض في نفسه ، وما كانوا يبيتونه تجاه هذه القضية بالذات ، حين قيل ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يسمع : إن النبي ليهجر ، أو نحو ذلك .
ولم يعد مجال للتعلل بأن صحابته صلى الله عليه وآله وسلم أتقياء مخلصون ، يحترمون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ويحرصون على تنفيذ أوامره ، وكسب رضاه . فإن قولهم : إن النبي ليهجر ، قد أظهر مدى جرأتهم على الرسول الكريم ، فإذا كانت مطامعهم ومصالحهم تدعوهم إلى هذه الجرأة ، وإذا كانوا يواجهون أعظم نبي بهذا الأسلوب الجاف ، فهل يتورعون عن ضرب النساء ، وعن طمس الحقيقة في سبيل تحقيق أهدافهم ؟ !
الثاني : حمل الحسين عليه السلام معه النساء والأطفال إلى كربلاء حتى لا يدعي الحكام المجرمون إن اللصوص قتلوا الحسين ، أو أنه تاه في الصحراء ، فمات عطشا ، كما جرى لدليلي مسلم بن عقيل ، أو أن السباع قد افترسته أو ما إلى ذلك .
ثم يأتي هؤلاء المزورون ، ويشيعون جنازته بالاحترام والتبجيل ، مع إظهار مزيد من الحزن والأسى على فقده ، ويخدعون الناس بذلك ،
[size=16]ويؤكدون نهجهم الانحرافي والإجرامي .
ولأجل ذلك أيضا ، خرج عليه السلام من مكة في يوم التروية ، مع أن المفروض هو أن يتوجه في هذا اليوم إلى عرفات ، مع العلم أن الحسين عليه السلام هو الوحيد الباقي من ذرية النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو الرمز ، وهو الذي يراه الناس مسؤولا عن حفظ هذا الدين ورعايته ، وتعليمهم أحكامه ، فكيف يخرج ويتركهم ، في يوم تبدأ فيه مراسم ، شعيرة هي من أعظم شعائر الإسلام ؟ ! فبدل أن يتوجه إلى عرفات يتوجه إلى جهة أخرى ! ! .
إن ذلك سوف يصرف الانتباه ، ويطرح الكثير من التساؤلات . إنه يخرج من مكة إلى غير مكة ، ومن قلب العالم الإسلامي النابض ، الذي يحتضن أعظم المقدسات الإسلامية إلى بلد آخر لا مقدسات فيه ، وهو يتركها في أيام الحج ، لا في أيام العادية ، وبالذات ، في أول يوم من أيامه ، والمفروض أن يكون هو أمير الناس ، وقائدهم ، ومرجعهم الذي يرجعون إليه ، ليعلمهم مناسك حجهم ، وأحكامه .
والحسين عليه السلام نفسه هو ذلك الشخص الذي تتمنى القلوب والعيون أن تراه ، ولو مرة في العمر ، فضلا عن السعادة الغامرة لكل مسلم بالتحدث إليه ، والجلوس بقربه .
ثم إنه عليه السلام يعلن للناس جميعا : أن الله شاء أن يراه قتيلا ، وعن النساء : إن شاء الله أن يراهن سبايا .
فهناك إذن جريمة ، وهي غير عادية ، إنها جريمة قتل لانسان عظيم ، وفي ظروف غير عادية . إنها جريمة تستهدف أعظم إنسان على
[size=16]وجه الأرض ، وقتله في حرب مدمرة ، تقتل فيها الرجال كل الرجال من ذرية الرسول ، وكل من معهم ، وتسبى بنات الوحي وأهل بيت النبوة . إذن ، فلا بد أن يتساءل الناس عن هذا المجرم من هو ، وعن موقفهم ومسؤولياتهم تجاه هذه الواقع الخطير والمرير . . ولسوف ينتظرون نبأ الجريمة بفارغ الصبر .
[/size]